top of page

البيت والقانون: الاقتصاد العالمي ودروس العبودية

تاريخ التحديث: 28 يونيو


ree

قراءة نقدية لتطور المفهوم ووظائفه بين النظرية والتطبيق


في خضم تشكّل العالم الحديث، يُنظر إلى الاقتصاد غالبًا كمنظومة فنية تُعنى بالأسواق، والربحية، والتجارة الدولية. غير أن هذه النظرة – رغم انتشارها – تظل سطحية مقارنة بما يحمله المفهوم من أبعاد تاريخية وفكرية أعمق.كلمة "اقتصاد" (Economy) ذات جذور إغريقية تعود إلى مصطلح "Oikonomia"، الذي يعني "إدارة شؤون المنزل"، وهو مفهوم يعكس بُعدًا أخلاقيًا واجتماعيًا في تنظيم الموارد ضمن وحدة الأسرة (Aristotle, Politics). مع تطور المجتمعات وتوسع مفهوم الدولة، اتسعت دلالة "الاقتصاد" لتشمل تنظيم الموارد والإنتاج والتوزيع في نطاق أوسع، وصولًا إلى أنظمة الاقتصاد الكلي والجزئي في العصر الحديث.

في اللغة العربية، يرتبط جذر كلمة "اقتصاد" بالفعل "قصد"، الذي يدل على التوازن والاعتدال في التوجه. هذا الاشتقاق يدعم – لغويًا – النظرة إلى الاقتصاد بوصفه وسيلة لتحقيق غايات إنسانية، لا مجرد تراكم رأسمالي أو توسع نفوذ.


لكن الواقع التاريخي والتطبيقي للاقتصاد الحديث يطرح إشكالات عميقة، لعل أبرزها التساؤل الجوهري:هل لا يزال الاقتصاد أداة لتحقيق الرفاه المشترك؟ أم أصبح أداة تخدم مصالح فئة ضيقة على حساب الأغلبية؟


من الاقتصاد الأخلاقي إلى النظام الرأسمالي المعولم

ree

أشار "آدم سميث" في كتابه التأسيسي ثروة الأمم (1776) إلى أن الاقتصاد يجب أن يهدف إلى رفاهية الشعوب من خلال حرية السوق والمنافسة العادلة. لكنه حذّر أيضًا – في كتابه الآخر نظرية المشاعر الأخلاقية – من طغيان الجشع إذا انفصل الاقتصاد عن قيم العدالة.


لاحقًا، قدّم "كارل ماركس" (1867) نقدًا جذريًا للرأسمالية، معتبرًا أنها نظام يُنتج التفاوت ويُسخّر الطبقة العاملة لخدمة أصحاب رأس المال. وذهب "كارل بولاني" في التحول العظيم (1944) إلى أن السوق الحرة لم تكن "طبيعية"، بل نتاج تدخل سياسي هيأ لها بيئة تُفكك العلاقات الاجتماعية التقليدية لصالح آلية السوق.

اليوم، تُظهر تقارير دورية مثل The World Inequality Report (2022) اتساع فجوة الدخل والثروة عالميًا، إذ يمتلك أغنى 1% أكثر مما يمتلكه 50% من سكان الأرض مجتمعين، ما يثير تساؤلات حول أخلاقيات توزيع الموارد وجدوى النظام القائم في تعزيز العدالة الاجتماعية.


الاقتصاد والهيمنة: من الفرضيات النظرية إلى الواقع الميداني

Modern capitalism slaves art
Modern capitalism slaves art

تشير تجارب العديد من الدول النامية، خصوصًا في إفريقيا، إلى أن دمجها في الاقتصاد العالمي لم يُسهم غالبًا في تحقيق التنمية المستدامة، بل فاقم أحيانًا التبعية الاقتصادية والتهميش. رغم أن القارة تملك 30% من ثروات العالم الطبيعية، فإن 33 من أصل 46 دولة مُصنّفة كـ"أقل نموًا" تقع فيها (UNCTAD, 2023).

تُظهر هذه التناقضات أن الاقتصاد العالمي قد لا يعمل دومًا وفق مبادئ "النفع المتبادل"، بل تُحرّكه في كثير من الأحيان مصالح الشركات الكبرى والدول الصناعية، في غياب آليات كافية لضمان العدالة العابرة للحدود.


يتجلى أحد أوجه الاستغلال الاقتصادي المعاصر في ما يُسمى بـ"الاستعباد المهني الحديث"، حيث تندمج ساعات العمل مع الوقت الشخصي بسبب ثقافة الأداء المفرط ومتطلبات الاتصال المستمر (digital labor). الدراسات النفسية تؤكد أن ضغط العمل المستمر وغياب التوازن بين الحياة والعمل يؤدي إلى الاحتراق النفسي، وتراجع جودة الحياة والإنتاجية (Maslach & Leiter, 2016).


في ظل النظام الرأسمالي المعولم، لم تعد "العبودية" مجرّد ماضٍ ارتبط بالاسترقاق الجسدي، بل أعيد إنتاجها بشكل حديث أكثر تعقيدًا، عبر آليات السوق والعمل والاستهلاك، حيث تم اختزال قيمة الإنسان إلى مجرد أداة إنتاج أو مستهلك. يصف المفكر الاجتماعي زيجمونت باومان (Bauman, 2007) هذا التحول بأنه "سيولة أخلاقية"، حيث لم تعد القيم هي ما يحكم العلاقات، بل الربح والمصلحة الفورية. تُظهر الدراسات النفسية والاجتماعية المعاصرة أن الإنسان في ظل الرأسمالية المتطرفة يعيش ما يُعرف بـ"الاغتراب الوجودي" (existential alienation)، حيث يشعر بالانفصال عن ذاته، ومجتمعه، وحتى عن المعنى الروحي للحياة (Fromm, 1955).


أحد أبرز مظاهر هذه العبودية المستترة هو تحوّل العلاقات الاجتماعية إلى أدوات نفعية، ما أدى إلى انحلال روابط الأسرة والمجتمع التقليدية. أظهرت دراسات متعددة مثل تقرير UN World Social Report 2020 أن المجتمعات الرأسمالية تشهد تراجعًا حادًا في مؤشرات التماسك الأسري والاجتماعي، مقابل ارتفاع نسب الاكتئاب، العزلة، والانتحار، وكلها مؤشرات على تآكل الإنسان داخليًا رغم التقدّم المادي الظاهري.

الرأسمالية الحديثة، بحسب "تشارلز تايلور" في The Malaise of Modernity، شجّعت على النزعة الفردانية وأعلت من قيمة الذات المنعزلة، ما ساهم في انسلاخ الإنسان عن مجتمعه وهويته الدينية والثقافية. كما أن ثقافة الاستهلاك – التي تُعتبر قلب الرأسمالية – عملت على إعادة تعريف النجاح والمعنى وفق مقاييس مادية بحتة، وهو ما أكدته دراسة Kasser & Ryan (1996) التي ربطت بين التركيز على الأهداف المادية وتدهور الصحة النفسية والاجتماعية.


إن العبودية الجديدة ليست فقط في المصانع والمكاتب المغلقة، بل في الأيديولوجيا التي تحوّل الإنسان إلى وحدة اقتصادية، وتقيس قيمته بمدى إنتاجه أو إنفاقه. في هذا السياق، لم يكن الانفصال عن الدين سوى نتيجة حتمية لهيمنة النموذج المادي الذي يرى في الدين "عائقًا" أمام السوق الحرة والقيم النفعية. ووفقًا لتقرير Pew Research Center (2019)، فإن تراجع الانتماء الديني في الدول ذات الطابع الرأسمالي القوي يقابله ارتفاع في النزعة الفردانية والاستهلاك الترفي.


وهكذا، يتضح أن الرأسمالية الحديثة – رغم شعاراتها حول الحرية والاختيار – قد أعادت إنتاج العبودية بأشكال أكثر نعومة، لكنها أكثر تغلغلًا، وقضت تدريجيًا على جوهر الحياة الإنسانية: الروح، المعنى، والعلاقات الحقيقية.


نحو اقتصاد عادل: ما المطلوب؟
ree

للخروج من دوامة الاقتصاد النخبوي، تقترح الدراسات المعاصرة عدة محاور إصلاحية، منها:

  1. الضرائب التصاعدية: لفرض توازن في توزيع الثروة (Piketty, 2014).

  2. الاستثمار في التعليم والصحة العامة: كوسيلة لتقليل الفجوات الطبقية.

  3. الاقتصاد الدائري والمجتمعي: للحد من الهدر وتعزيز المشاركة المجتمعية.

  4. تعزيز الشفافية والمؤسسات الديمقراطية: لضمان مساءلة السياسات الاقتصادية.

  5. فصل المال عن السياسة: عبر أنظمة تحكم تمويل الحملات والنفوذ في صنع القرار.


الاقتصاد ليس مجرد علم حسابات، بل منظومة أخلاقية وثقافية وسياسية. وقد أظهرت التجربة البشرية أن تجاهل هذه الأبعاد يقود إلى أزمات متكررة – سواء على مستوى النظام المالي أو على مستوى القيم الإنسانية. فالتغيير لا يكون بالمواقف الانفعالية، بل يبدأ بفهم رصين للتاريخ، وتحليل نقدي للحاضر، ورؤية واضحة للمستقبل. لا بد من إعادة تعريف "النجاح الاقتصادي" بحيث يشمل العدالة، الكرامة، والاستدامة – لا مجرد مؤشرات نمو مجرّدة.


لعل الوعي النقدي، والتعليم، والمشاركة المجتمعية، تمثل بوابة الإنسان الحديث لكسر الحلقة المفرغة… والتحرر من "الاقتصاد كقيد"، ليعود وسيلةً للكرامة والتوازن.


المنظور الإسلامي و الاقتصاد كأداة لتحقيق العدالة والكرامة

يؤسس الاقتصاد الإسلامي على قاعدة مركزية وهي أن المال مال الله والإنسان مستخلف فيه، وليس مالًا مطلق التصرف بيد الأفراد أو المؤسسات، كما هو شائع في النظام الرأسمالي.

قال تعالى:

"وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" (النور: 33)وفي ذلك بيان واضح أن المال ليس ملكية خاصة مطلقة، بل أمانة توزّع وفق قواعد تحقق التكافل والعدل.

أولًا: رفض العبودية الحديثة للرأسمال

الإسلام يرفض كل أشكال الاستغلال الاقتصادي التي تجعل الإنسان وسيلة للربح، ويحرّم الربا كمظهر من مظاهر تراكم الثروة بلا مقابل إنتاجي، لما فيه من تعزيز للفجوة بين الغني والفقير:

"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون" (آل عمران: 130)

وقد اعتبر النبي ﷺ العامل المستأجر من أحق الناس بالعدالة، فقال:

"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه" (رواه ابن ماجه)وفي هذا توجيه مباشر ضد أنظمة العمل التي تُخضع العامل للاستغلال واللامساواة.

ثانيًا: المادية مقابل المقصدية

خلافًا للرأسمالية التي تقيس النجاح بالناتج المحلي والاستهلاك، يقوم التصور الإسلامي على مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، النفس، العقل، المال، والنسل.بالتالي، فإن المال في الإسلام وسيلة لحفظ الحياة والكرامة وليس غاية في ذاته، ويجب أن يُدار بما يراعي أثره على الفرد والمجتمع والأخلاق والدين.

قال ﷺ:

"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" (رواه البخاري)

وهذا الحديث يعيد تعريف القيمة الإنسانية بعيدًا عن المادية القاتلة للمعنى.


ثالثًا: حماية التماسك الأسري والاجتماعي

في مقابل التفكك المجتمعي الناتج عن النزعة الفردانية، يدعو الإسلام إلى نظام تكافلي قائم على الزكاة، والوقف، والإنفاق الواجب والتطوعي، وكلها أدوات تعزز التماسك المجتمعي وتقلل الفوارق الطبقية.

قال تعالى:

"وفي أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم" (الذاريات: 19)

وشرع الإسلام الزكاة كنظام مالي إلزامي، بمعدل تصاعدي يتناسب مع الثروة، ويوجه الموارد من الأغنياء إلى الفقراء بطريقة منتظمة، ما يجعلها أداة توزيع عادلة مقارنة بالأنظمة الضريبية الوضعية التي تتأثر بالمصالح السياسية.


رابعًا: التحرر من "عبودية الوظيفة"

في الرؤية الإسلامية، العمل عبادة، لكنه يجب أن يكون متوازنًا لا يُستنزف فيه الإنسان.قال ﷺ:

"إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه" (رواه البخاري)وهذا الحديث يؤسس لمبدأ التوازن بين العمل والحياة الشخصية، وينتقد ثقافة الاستنزاف المستمرة التي تشكل أحد أركان العبودية المهنية الحديثة.

الطريق للخروج: الاقتصاد الإسلامي كبديل متكامل

إن أزمة الإنسان في ظل النظام الرأسمالي ليست فقط مادية، بل روحية وأخلاقية أيضًا. من هنا، يقدّم الاقتصاد الإسلامي منظومة شاملة تحقق:


  1. العدالة في توزيع الثروة من خلال الزكاة والوقف والتكافل.

  2. الكرامة الإنسانية في سوق العمل من خلال تحريم الظلم والاستغلال.

  3. الحفاظ على المعنى والهوية من خلال ضبط المال ضمن إطار ديني وأخلاقي.

  4. مقاومة العولمة الجائرة عبر اقتصاد محلي قائم على القيم والاحتياج الحقيقي، لا على الاستهلاك العابر للحدود.


في مواجهة "عبودية العصر الحديث" التي فرضتها الرأسمالية المادية، يمثل المنظور الإسلامي الاقتصادي رؤية شمولية تُعيد الإنسان إلى مركز العملية الاقتصادية، لا كأداة إنتاج، بل كغاية مكرّمة.


ولأن الإسلام لا يفصل بين القيم والمصالح، ولا بين الدين والاقتصاد، فإن تبنّي مبادئه الاقتصادية يُمكن أن يكون حجر الزاوية لإعادة التوازن بين السوق والروح، بين الإنتاج والرحمة، وبين المادة والمعنى.

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم

الفكرة

نموذج الاشتراك

شكرا للتقديم!

©2025 by bandarion.com

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
bottom of page