في خضم الحياة وتسارع أحداثها، كثيرًا ما نجد أنفسنا عالقين وسط دوامة لا تنتهي من الالتزامات والضغوط، حتى نشعر وكأننا نفقد السيطرة على زمام أمورنا. مررت بفترة شعرت فيها بثقل الحياة على كتفي، تتراكم المهام وتتزاحم الأفكار، وبدأت ألاحظ أن حالتي النفسية تتأرجح، وعلاقاتي تتأثر، وطاقتي تتآكل بصمت. كانت هذه مقدمات ما يُعرف بالاحتراق النفسي، الذي يتسلل خلسة حتى يُطفئ الشغف ويقسو على الروح.

عند تلك النقطة، وقفت مع نفسي وقفة صادقة. أدركت أنني أغفلت شيئًا مهمًا: أن لنفسي عليّ حق. نعم، نحن نُجهد أنفسنا لإرضاء الجميع، نلاحق النجاح والالتزامات، لكننا ننسى أنفسنا في الزحام. من هنا بدأت رحلتي نحو إعادة التوازن.
بدأت أولًا بالاعتراف بحاجتي إلى الراحة، لا كضعف بل كحق. ثم خصصت وقتًا للتأمل، وللحديث الصادق مع نفسي. تعلمت كيف أقول "لا" لما يستنزفني، و"نعم" لما يرمم روحي. حررت نفسي من الضغوط المفرطة، ووضعت حدودًا صحية لحياتي المهنية والاجتماعية.
التوازن ليس رفاهية، بل ضرورة. والعناية بالنفس ليست ترفًا، بل مسؤولية. ومن تجربتي، أقول: كلما اقتربت من نفسك، واهتممت بها، كلما استطعت أن تواجه الحياة بثبات ورضا.
ومنذ أن بدأتُ أفكر في كيفية قضاء "رحلة الهروب" في عطلة نهاية الأسبوع، تسلّل إليّ شعور بالحماس وكأن الحياة تبعث في داخلي نبضًا جديدًا. الأفكار بدأت تتزاحم، والخطط تتوالى، وكأن عقلي أعاد تشغيله بعد فترة من الخمول. شعرت بشيء افتقدته طويلًا… إنه الشغف. ذلك الشعور الذي يحرك فيك الرغبة في التجديد، في الاستكشاف، في الحياة.
تخيلت نفسي في أكثر من مشهد؛ رحلة استجمام راقية في منتجع فاخر على شاطئ البحر، حيث السكون والهدوء، أو في أحد أبراج المدينة، أستمتع بخدمة خمس نجوم ومنظر بانورامي يلامس السماء. ثم قفزت إلى فكرة أخرى أكثر حيوية: رحلة ريفية تملؤها بساطة الحياة، شواء تحت النجوم، جلسات حول النار، وربما صيد ومغامرات تنعش الروح. بل حتى راودتني فكرة السفر إلى دولة قريبة، أكسر بها رتابة الواقع، وأغوص ولو لساعات في ثقافة مختلفة، نكهات جديدة، وإحساس مؤقت بالغربة اللذيذة.
وفي زاوية القلب، فكرة أخرى كانت تهمس: لمَ لا تكون رحلة روحانية؟ أخصصها للسكينة، للطهارة، لأداء العبادات في مكان يُعيد للنفس اتزانها؟ شعرت أن كل هذه الخيارات، على اختلافها، كانت دعوة خفية للعناية بالنفس، وإعادة شحن الطاقة، كلٌ بطريقته.
في نهاية الأمر، لم تكن الخطة بحد ذاتها هي الأهم، بل تلك الشرارة التي أوقدت داخلي الرغبة بالحياة مجددًا، والرغبة الصادقة في ألا أكون مجرد ترس يدور في آلة، بل إنسان يستحق أن يعيش بعمق ووعي ورضا.
من منظور صحي ونفسي، فإن تخصيص وقت دوري للانفصال عن ضغوط الحياة وتجديد الذات يُعد ضرورة وليست رفاهية. فالعقل المُجهد بحاجة إلى فترات استراحة ليستعيد توازنه، كما أن الجسد يحتاج إلى راحة مختلفة عن النوم؛ راحة يجد فيها الراحة النفسية، الهدوء، والانفصال عن الروتين المستنزف. الرحلات القصيرة، حتى لو كانت بسيطة، تخفف من مستويات التوتر، وتقلل من احتمالية الوصول إلى الاحتراق النفسي، وتحفز الدماغ على الإبداع واتخاذ قرارات أوضح.
أما من الجانب الاجتماعي والأسري، فإن هذه الرحلات تعزز الروابط والعلاقات بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء. حين تُقضى الأوقات خارج البيئة المعتادة، بعيدًا عن المهام اليومية والانشغالات، تبدأ الحوارات الصادقة، ويعود الدفء الإنساني، وتُخلق ذكريات ممتعة تُثري العلاقة وتقويها. كما أنها تُعزز من قيم المشاركة والتخطيط الجماعي والشعور بالانتماء.
ولكي يكون لهذا النوع من الرحلات أثر إيجابي وفعّال، يُنصح بتكرارها مرة إلى مرتين شهريًا على الأقل، سواء كرحلة فردية للاسترخاء وإعادة التوازن، أو كرحلة جماعية أسرية أو اجتماعية لتعزيز العلاقات والمشاعر. الأهم أن تكون الرحلة هادفة ومخطط لها ولو ببساطة، وتُنفذ بروح الاستجمام والتجدد، لا كهروب مؤقت فقط.

وها أنا اليوم، وقد استعدت زمام نفسي، بدأت فعليًا في تنفيذ أولى خطوات "رحلة الهروب" التي طالما حلمت بها. قررت أن أخصص أسبوعين متتاليين، صغتهما بروح تجمع بين العائلة والذات، بين التواصل مع من أحب وبين الخلوة التي أحتاجها.
الأسبوع الأول كان في منتجع "دُرّة نجد"، حيث الاصطحاب العائلي حمل معه البهجة، والبيئة الهادئة ساعدت على استرخائنا جميعًا. قضينا أوقاتًا مليئة بالمرح، والنقاش، والأنشطة الجماعية، وفي الوقت ذاته خصصت لنفسي لحظات صباحية للهدوء والتأمل، أتنفس فيها عمق الطبيعة بعيدًا عن أي التزام.
أما الأسبوع الثاني فكان في البحرين، رحلة أكثر تنوعًا، جمعت بين استكشاف الأماكن الجديدة، ولقاءات اجتماعية قصيرة، ولحظات انفرادية مارست فيها رياضة المشي، زرت أماكن ثقافية، وخصصت وقتًا للقراءة والتفكر. حتى هناك، رافقتني عائلتي بروح المشاركة، لكننا اتفقنا مسبقًا على منح كل فرد منا مساحة حرة لتجربته الخاصة، فكان التوازن أجمل مما توقعت.
بهذا الدمج بين الجماعي والفردي، وبين الحيوي والهادئ، شعرت أنني أعدت برمجة ذاتي من جديد. كانت التجربة متكاملة بكل معنى الكلمة… بداية جديدة نحو حياة أكثر وعيًا ورضًا وتوازنًا.
ومن هنا، أدركت أن كل عطلة نهاية أسبوع يجب أن تحتضن هذا النوع من "الهروب الإيجابي"، الذي يُشبه شحذ المنشار قبل قطع الخشب؛ استراحة عميقة تعيد الشغف وتنعش الروح، لتبدأ أسبوعك التالي بطاقة إنتاجية متجددة، وقدرة أعلى على التحمّل، واستعداد لمواجهة مختلف التحديات بروح حيوية وذهن صافٍ.